الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإن رده أبو حيان بأنه لم يعلم أن أحدًا من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة وفيه نظر.وأما الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه اهـ.وقال الألوسي:وظاهر كلام الزمخشري أن الظرف لغو و{أكابر} المفعولين مضاف لمجرميها و{لِيَمْكُرُواْ} المفعول الثاني.وجوز بعضهم كون جعل متعديًا لواحد على أن المراد بالجعل التمكين بمعنى الإقرار في المكان والإسكان فيه ومفعوله {أكابر مُجْرِمِيهَا} بالإضافة، ويفهم من كلام البعض أن احتمال الإضافة لا يجري إلا على تفسير جعلناهم بمكناهم ولا يخلو ذلك عن دغدغة.وقال العلامة الثاني بعد سرد عدة من الأقوال: والذي يقتضيه النظر الصائب أن {فِي كُلّ قَرْيَةٍ} لغو و{أكابر مُجْرِمِيهَا} مفعول أول و{لِيَمْكُرُواْ} هو الثاني؛ ولا يخفى حسنه بيد أنه مبني على جعل الإشارة لأحد الأمرين اللذين أشير فيما سبق إليهما.وناقش في ذلك شيخ الإسلام وادعى أن الأقرب جعل المشار إليه الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والإفراد باعتبار الفريق أو المذكور، ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيص كما في قوله سبحانه: {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ} [النساء: 94] والأول: {أكابر مُجْرِمِيهَا}، والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينًا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها اهـ.وقال الألوسي:ولا يخفى بعده.وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم.وقرئ {أكابر مُجْرِمِيهَا} وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.وقوله سبحانه: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} اعتراض على سبيل الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد للكفرة الماكرين أي وما يحيق غائلة مكرهم إلا بهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير {يَمْكُرُونَ} أي إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلًا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم. اهـ.
وتقديم قوله: {في كل قرية} للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأوّل.وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم، وتفاقم ضرّه، وإشعار بضرورة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك القرية، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون لأنّ بقاءهم على الشّرك صيّرهم مجرمين بين مَن أسلم منهم.ولعلّ كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السّامعون كليهما، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدّم عند قوله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منزل من ربّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين} [الأنعام: 114].واللاّم في {ليمكروا} لام التّعليل، فإنّ من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصّالح والفاسد، أن يعمل الصّالح للصلاح، وأن يعمل الفاسد للفساد، والمكرُ من جملة الفساد، ولام التّعليل لا تقتضي الحصر، فللّه تعالى في إيجاد أمثالهم حِكَم جمّة، منها هذه الحكمة، فيظهر بذلك شرف الحقّ والصّلاح ويسطع نوره، ويظهر انْدِحاض الباطل بين يديه بعد الصّراع الطّويل؛ ويجوز أن تكون اللام المسماةَ لام العاقبة، وهي في التحقيق استعارة اللام لمعنى فاء التفريع كالتي في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزنًا} [القصص: 8].ودخلت مكّة في عموم: {كل قرية} وهي المقصود الأول، لأنَّها القرية الحاضرة الّتي مُكِر فيها، فالمقصود الخصوص.والمعنى: وكذلك جعلنا في مكّة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كلّ قرية مثلَهم، وإنَّما عُمّم الخبرُ لقصد تذكير المشركين في مكّة بما حلّ بالقرى من قبلها، مثل قرية: الحِجر، وسَبا، والرّس، كقوله: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا} [الأعراف: 101]، ولقصد تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه ليس ببدع من الرّسل في تكذيب قومه إيَّاه ومكرهم به ووعده بالنّصر.وقوله: {أكبر مجرميها} أكابر جمع أكبر.وأكبر اسم لعظيم القوم وسيّدهم، يقال: ورثوا المجد أكْبَر أكْبَر، فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزّيادة في الكبر لا في السِنّ ولا في الجسم، فصار بمنزلة الاسم غير المشتقّ، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع أو وُصف به الجمع ولو كان معتبرًا بمنزلة الاسم المشتقّ لكان حقّه أن يلزم الإفراد والتّذكير.وجمع على أكابر، يقال: ملوك أكابر، فوزن أكابر في الجمع فَعالل مثل أفاضل جمع أفضل، وأيامِنَ وأشَائِمَ جمع أيَمن وأشأم للطّير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة.وأعلم أنّ اصطلاح النّحاة في موازين الجموع في باب التّكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصليّة والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصّرف في باب المُجرّد والمزيد.فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة.وفي قوله: {أكبر مجرميها} إيجاز لأنّ المعنى جعلنا في كلّ قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلمّا كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين.والمكر: إيقاع الضرّ بالغير خُفية وتحيُّلًا، وهو من الخداع ومن المذام، ولا يغتفر إلاّ في الحرب، ويغتفر في السّياسة إذا لم يمكن اتّقاء الضرّ إلاّ به، وأمّا إسناده إلى الله في قوله تعالى: {ومكرَ الله واللَّهُ خير الماكرين} [آل عمران: 54] فهو من المشاكلة لأنّ قبلهُ {ومكروا} [آل عمران: 54]، أي مكروا بأهل الله ورسله.والمراد بالمكر هنا تحيّل زعماء المشركين على النّاس في صرفهم عن النّبي صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام، قال مجاهد: كانوا جلسوا على كلّ عقبة ينفّرون النّاس عن اتّباع النّبي صلى الله عليه وسلم.وقد حذف متعلِّق: {ليمكروا} لظهوره، أي ليمكروا بالنَّبيء عليه الصلاة والسلام ظنًّا منهم بأنّ صدّ النّاس عن متابعته يضرّه ويحزنه، وأنَّه لا يعلم بذلك، ولعلّ هذا العمل منهم كان لما كثُر المسلمون في آخر مدّة إقامتهم بمكّة قبيل الهجرة إلى المدينة، ولذلك قال الله تعالى: {وما يمكرون إلا بأنفسهم}، فالواو للحال، أي هم في مكرهم ذلك إنَّما يضرّون أنفسهم، فأطلق المكر على مآله وهو الضرّ، على سبيل المجاز المرسل، فإنّ غاية المكر ومآله إضرار الممكور به، فلمّا كان الإضرار حاصلا للماكرين دون الممكور به أطلق المكر على الإضرار.وجيء بصيغة القصر: لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لا يلحقه أذى ولا ضرّ من صدّهم النّاس عن اتِّباعه، ويَلحق الضرّ الماكرين، في الدّنيا: بعذاب القتل والأسر، وفي الآخرة: بعذاب النّار، إنْ لم يؤمنوا فالضرّ انحصر فيهم على طريقة القصر الإضافي، وهو قصر قلب.وقوله: {وما يشعرون} جملة حال ثانية، فهم في حالة مكرهم بالنّبيء متّصفون بأنَّهم ما يمكرون إلاّ بأنفسهم وبأنَّهم ما يشعرون بلحاق عاقبة مكرهم بهم، والشّعور: العلم. اهـ.
وقد تقدم تمامه في تفسير سورة البقرة. وبالله التوفيق. اهـ.
|